إن حادث كنيسة القديسين –وتداعياته- كان بكل المقاييس خاطفاً للعقول ونقطة تحول خطيرة في المجتمع وحدود الجنون والشطط الطائفي. فلقد كان التفجير بمثابة التفتيت في اللحم المهلهل والتكسير في العظام المهشمة. ومع انفجار الشظايا، لم تُشق فقط أجساد الضحايا، وإنما شق أيضاً الشارع المصري المنقسم على ذاته. ومع اندلاع النيران اندلع الغضب. ومع تطاير ألسنة اللهب تطايرت الألباب واحترقت القلوب مع احتراق الجثث. وأصبح الكل مستباحاً. وهكذا تتحول الأمور والحوادث وردود الأفعال إلى أنماط ومعايير مجتمعية. وتنتج الذات وتصورها عن الآخر دوائر تغلق مساحات التحول والتغير لآفاق مغايرة عن واقع رسم ملامحه وحدوده الخوف والفزع.
وسواء كان الفاعل عنصراً داخلياً أو خارجياً، فالحدث يشير ويثير إشكاليات غاية في الخطورة. فربما ينبغي علينا النظر إلى حوادث الفتنة الطائفية بطريقة مغايرة، عما ساد في الأوساط الإعلامية وربما الثقافية أيضاً. فالمشكلة ليست حوادث منفصلة أو أحداث تطرف لحظية واندفاعية. فتواتر الأحداث وكثرة اندلاعها في فترات، أصبحت قصيرة الأمد، ينم عن خلل جسيم في النظام العام وليس فقط السياسي.
تحاول المقالة طرح طريقة لفهم النزاع الطائفي المتجدد في مصر. وفي أثناء هذه المحاولة تقوم بإطلاق بعض الأسهم النارية على مجموعة من المواضع والبنى والتفاعلات، لاستيضاح معالم الطريق، في كثير من الأحيان، وهدم وحرق بعض المواضع في أغلب المحاولات. وأبدأ بتوجيه هذه الأسهم على كل مقاربة، تحاول تحويل الموضوع لأزمة ثقافية محضة. والمقاربة الثانية، التي تحاول جعلها أزمة أمنية منزوعة السياق المجتمعي والسياسي.
الثقافة هي المتهم/البريء الأول
المشكلة في رأيي ليست ثقافية في المقام الأول. "ثقفنة" المشاكل ونسبها إلى غياب التسامح وغياب الحوار، وما إلى ذلك، طرح مضلل إلى حد كبير. فهو طرح يجعلنا نغفل عن كثير من المشاكل السياسية والإقتصادية، بدءً من عدم المساواة، إلى العدالة والحق في حياة كريمة، وإن كنت لا أنكر أهمية الأبعاد الثقافية وتداخلها الشديد مع ممارسات العنف والقهر والاستبعاد والتهميش الاجتماعي.
وفي مثل هذه الأحداث كثيراً ما نسمع شيئين: الأول هو أن أحداث الفتنة غريبة عن ثقافتنا وعن الشخصية المصرية، والثاني، وهو مقلوب الأول، وهو أن ثقافتنا –وهنا تذكر الإسلامية تحديداً- الأصل فيها التكفير والعنف والإقصاء وعدم قبول غير المسلم، وأن هذه الصفات أصيلة في المكون الثقافي الإسلامي. وأرى أن "ثقفنة" الأزمة يثير الكثير من الإشكاليات. فهو يتعاطى بسطحية مع المشكلة ولا يرى الكثير من التداخلات والتشابكات بها. ثم أنه يتعامل مع الثقافة والهوية، كأنهما شيئان ثابتان وجامدان ومعطيان. وربما من الأحرى التعامل مع الإشكاليات على أنها مسألة بناء اجتماعي، تتداخل فيها الكثير من المعطيات والعوامل؛ بدءً من البنية السياسية إلى الممارسة والخطاب – على جميع المحاور من الدين إلى الاقتصاد، وهو ما يجعل المسألة الثقافية في ديناميكية وتحول وتجدد مستمر. ولهذا لا يوجد معطى ثابت أو بنية جامدة تجعلنا نحكم بمثل هذا الاستقطاب والاندفاع. وهو أيضا طرح يتصور أو يفترض تماسك ووحدة الكيان الاجتماعي وكأنه نمطي ومتوحد وكتلة ثابتة. ولا يرى أنه يحمل الكثير من الإختلاف والتنوع وأحياناً الانشقاق الكامل – وهو الأقرب للواقع. ومثل هذا الطرح يدفعنا أيضاً لإصدار أحكام في غاية القسوة وعدم الصحة. فالسير على خطاه يقودونا إما لإتهام المسيحية أو الإسلام بأن أحدهما شر محض. وربما يقودنا أيضا لإزاحة المشكلة برمتها إلى الخارج؛ أي أنها أحداث غريبة ومن خارج المجتمع المصري كله لأنها ضد ثقافتنا.
ولقد عانى الخطاب القومي من مثل هذه التعميمات وافتراض السلامة الخالصة للطابع المصري الأصيل، الذي يعرف دوماً بالتسامح وكل الصفات الحميدة منذ بدء الخلق. وهو خطاب يثير الشفقة والسخرية أكثر منه إثارة للتأمل والتدبر. وهو خطاب أحادي البعد، ولا يتعامل مع واقع مركب ومتغاير ومتجدد. ثم إنه يرسم صورة وملامح ضيقة عن الشخصية المصرية، وعلى كل من لا يوافق هذه الملامح تعديل نفسه أو الخروج بالكلية من الدائرة المصرية. وكثيراً ما التصق ذلك الخطاب بخطاب الدولة، الذي طلما صدر عن مصر خلاصة الطابع، الذي يحاول حفنة من الأشرار من خارج هذا السياق المجتمعي اليوتوبي تحطيمه. ومن ثم على الدولة قهر هؤلاء الأشرار بكل آلاتها الأمنية وعلى المجتمع، وبالأخص مثقفي المؤسسة الاصطفاف وراءها. وهو الأمر الذي خلف تناقضاً كبيراً عند النخبة الثقافية والسياسية في علاقتها بالدولة، والسلطة السياسية، وبالأخص في عصر مبارك. فهي باستمرار تنادي على الدولة نداء التائه في الصحراء بحثاً عن الماء. وهي في نفس الوقت تعلم، أن الدولة أحد مصادر الطائفية، وهي أهم فاعل ومتسبب في قدر كبير من العجز البنيوي في التعامل مع تلك القضية. وبالتالي فعلت النخبة أمراً غريباً، وهو إعادة ترسيخ بنية الدولة وإنتاجها للقمع من خلال ندائها المستمر من أجل دعم دورها. والأخطر من ذلك، هو تصوير الدولة كجهاز وأسطورة، على أنها شيء محايد في إدارة الأزمة أو تمني ذلك. وعلى كل، لم يستطع أحد حتى الآن بناء تصورات ومشاريع للتعاطي مع الأزمة، بشكل يحدث مفارقة حقيقية مع الدولة على خطوط التغير والانعتاق من هيمنة دورها وندائه. وكانت الدولة دائماً حاضرة، بحلها الأمني وانتهازها الفرصة للقضاء على جماعات بعينها، مثل ما حدث من حملة إعتقلات واسعة في صفوف الإسلامين بعد حادث التفجير.
حول الأمن والأمان والأزمة
تحويل القضية إلى قضية أمنية، هو طرح مثير للقلق وتداعياته مثيرة للشكوك. فهل هي مشكلة أمنية حقاً؟ لا، وإن كانت تنم عن مدى هشاشة الجهاز الأمني واستخفافه بدوره الحقيقي في حماية البلد ككل، ومن ضمنه دور العبادة. تكشف الحوادث عن حقيقة أن الدولة المصرية، وجميع مؤسساتها، لم تعد أكثر من جهاز أمني كبير لحماية الحكام والطبقة الرأسمالية ومصالحهم. فلم نسمع يوماً عن أي هجوم على مؤسسات سويريس الاقتصادية أو مؤسسات أحمد عز. والتعامل مع الأزمة من منطلق أمني، من شأنه أن يرسخ نتيجتين: الأولى هي استفادة النظام الحاكم لترسيخ حالة الطوارئ وامتداد حالة الاستثناء، التي تعيشها البلاد إلى حالة دائمة، وهو الشيء الذي سيمكنه بالضرورة من قمع أي معارضة ومقاومة له بحجة زعزعة أمن البلاد. وفي ظل غياب ما يسمى بالبديل السياسي القادر على التعبئة والتغيير والوصول إلى السلطة، يصبح من السهل على النظام السياسي القائم الإستمرار أو حتى تبديل الأدوار داخله.
أما النتيجة الثانية، فستكون تحويل الكنائس ودور العبادة إلى قلاع وحصون منيعة، مما يرسخ حالة الإنحسار والخوف مما يمكن أن يكون بداخلها؛ وهي حالة قائمة وإن كانت غير صحيحة. فهذا من شأنه توليد حالة من النفور والفزع من المرور بشارع فيه كنيسة. ولا أظن أن توليد مثل هذه الحالة، هو شيء مرغوب وهو أيضاً غير مطلوب. ويستتبع هذا حالة أخرى من الإنسحاب والإنحسار من الشارع العام إلى القلاع، في محاولة يائسة للبحث عن الأمن المفقود. والكنيسة في احتياج، من وجهة نظري، أن تنفتح على الشارع لا أن تنغلق عنه. فالإنسان دوماً يخشي ما لا يراه وما لا يستطيع أن يتعامل معه. وفي مثل هذه المحاولة الأمنية، يفقد الجميع الحس بالأمان. ولابد من الأخذ في عين الاعتبار، أن أي خطاب أمني يعيد إنتاج الفزع والخوف (Dillon, 1996)؛ فالأمن والإرهاب يسيران يداً بيد، ولا ينفك أحدهما عن الآخر. ويزيد الخطاب الأمني من وطأة الشعور بفقدان الأمان. ووعود الأمن هي دائما وعود مستقبلية، كما أنها مرهونة بمدى التطور والتقدم التقني للجريمة والإرهاب وتفاعلهما مع العنصر البشري( Dillon, 2005). وهذا خليط لا يمكن توقع أبعاده وتداعياته. وفي ظل نظام أمني يثبت يوماً بعد يوم، أنه قادر فقط على ردع أعداد بسيطة من النشطاء المتظاهرين، يكون من الصعب تعليق الآمال عليه.
وعلينا أن نحاول فهم الأزمة من خلال نموذجين مختلفين: الأول أن نفهمها على ثلاثة مستويات مركبة ومتداخلة. أي من خلال مستويات البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ثم على مستوى ما يسمى بالعلاقية أو العلائقية (والتي أقصد بها العلاقات المباشرة بين الأفراد والجماعات خارج دور المؤسسات والبنى السياسية)، ثم على مستوى الممارسة اليومية. والنموذج الثاني هو الخريطة الإدراكية أو المعرفية. يدفعنا النموذج الثاني لنرى الأزمة من خلال مفردات الإدراك والتصور وتخيل الآخر. ولديه قدرة عالية لإيضاح إشكالية الاستقطاب والانحسار. ودمج هذين النموذجين، يجعلنا نرى النزاع كفرصة للتحويل والتغير. فهو يحاول أن يوجه أعيننا لإشكاليات كامنة تحت السطح. ومن خلاله يمكننا أن نرى الإمكانيات والطرق المتاحة في محاولة لتحويل الأزمة.
الأبعاد البنيوية والمؤسسية
تفضح الأزمة على مستوى البنية - ووضع الأقباط داخلها - الكثير من المشاكل. وما أحاول فعله، هو تفكيك الواقع وهدم أركان وجزئيات محددة لفهم، من أين وجد الفراغ والانقطاع في فاعلية الممارسات لبعض المؤسسات المصرية. فعلى الصعيد القانوني، يوجد لدى الأقباط إحساس دائم بالظلم وعدم المساواة، ويتمثل ذلك في قانون دور العبادة والأحوال الشخصية وتطبيق أو تفعيل مفهوم المواطنة. وقد أدى هذا الشعور بالقمع لاندلاع الكثير من الأزمات، وصلت إلى حد إطلاق النيران من قبل الشرطة المصرية والجيش في أحداث كثيرة. وقد أشار الكثير من القساوسة، على فترات مختلفة، على شاشات الفضائيات، أنه من غير المعقول أن يتم طلب أو تصريح أمني، لترميم ماسورة مياه داخل إحدى الكنائس. وهنالك شكوى دائمة، وهي أن الأقباط لا يحظون بنفس الفرص داخل المؤسسات الحكومية أو حتى القطاع الخاص المملوك لكبار الرأسماليين. وهذا يجعلنا نتساءل، عما إذا كان هنالك ما يسمى بالعنف والقهر البنيوي الممنهج ضد الأقباط؟ وهل البنى الاجتماعية والسياسية غير قادرة على تلبية الاحتياجات، التي هي إنسانية في المقام الأول وليست طائفية أو مذهبية؟ والمتأمل من الخارج كما والمواطن العادي، يعرف تماماً عدم قدرة مؤسسات الدولة على تلبية الاحتياجات الجماهيرية العامة. بل، إن الكثير من تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة وحقوق الإنسان تشير إلى سوء الأوضاع الاقتصادية للمواطن المصري عامة وكذلك الإهدار العام لحقوقه.
والمتابع للحياة اليومية العامة في مصر، بدءً من طوابير الخبز إلى طوابير استخراج الأوراق والمستندات الرسمية، مروراً بوسائل النقل العامة والخاصة، يعي تماماً، أن هنالك إهداراً واستباحة لإنسانية المواطن. وفي مثل هذا المناخ العام السائد على الجميع - باستثناء من يسموا بعلية القوم - يجعل أي شعور بالأضهاد أو أي ممارسة للعنف والتهميش الاجتماعي شديد الوطأة والبؤس على أقباط مصر. وهذا ربما يفسر انزواء الكثير من المسيحيين في مؤسسات اقتصادية خاصة، تكاد توشك على أن تصبح اقتصاداً بديلاً، يمثل شريحة كبيرة في المجتمع. وهذا من شأنه خلق كتل اجتماعية منعزلة، بالإضافة إلى ترسيخ أكثر حدة لحالة الاستقطاب العامة.
ولعل الشاهد والمبرر أيضاً لحدوث مثل هذا التكتل والإنزواء، هو بنية الدولة المصرية والتي يصفها كتاب وأساتذة كبار مثل جلال أمين وهبة رؤوف عزت بالدولة الرخوة. وهو مصطلح – الدولة الرخوة - صكه عالم الاجتماع السويدي "جنار ميرادل". "فالدولة الرخوة تكاد تكون سر البلاء وسبباً من أسباب الفقر والتخلف، والتي يعم فيها الفساد وتنتشر الرشاوى" (جلال أمين، 2009: 12). وهي دولة غير قادرة على تلبية الاحتياجات حتى الأمنية والقانونية لمواطنيها. "فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة، والفساد ينتشر من السلطة التنفيذية والسياسية إلى التشريعية، حتى يصل إلى القضاء والجامعات" (نفس المرجع السابق). وأبعاد هذه الرخاوة تتجلي في حالة الانفلات العام في الشارع المصري والبلطجة والعنف الاجتماعي وصولاً إلى انتشار الفساد في جميع أركان الحياة العامة. ومن هنا يمكننا أن نفسر ونفهم الكثير من الأزمات سواء الطائفية أو الفئوية التي تمر بها البلاد منذ 2006 حتى الآن. فهنالك الكثير من الأشياء التي يتم قمعها، تحت سطح هذه البنية التسلطية والغير القادرة على الحل، الأمر الذي يؤدي إلى خروجها إلى السطح وتفجرها من حين إلى آخر.
هنالك نظرية في علوم النزاع والصراع تقول، إنه إذا لم يتم التعاطي ومحاولة معالجة الأزمات، تجد الأزمات طريقها إلى التفجر، لتبحث عن طرق للتحول والمعالجة ولو بالعنف.
ولنأخذ سريعاً دور مؤسسة مثل الأزهر. فمنذ عقود طويلة وهو، حسب أقوال الكثيرين، في اضمحلال مستمر. ولم يعد قادراً على توليد خطاب معرفي أو اجتماعي يجمع المصرين حوله. وينبع هذا العجز، في تحليلي، من وجود سلطة مسبقة تحد من حريته في توليد خطاب معرفي مستقل ومتحرر من قيود السلطة السياسية. بالإضافة إلى موالاته الفجة للنظام السياسي والتي أفقدته الكثير من مصداقيته العامة، بالإضافة إلى ضعفه المؤسسي العام، شأنه في ذلك شأن جميع مؤسسات الدولة المصرية. وهو ما أدى إلى فراغ كبير، تم ملؤه عن طريق جماعات إسلامية اختلط فيها الصالح بالطالح والمتطرف. إلا أن كثيراً منها حافظ على مصداقيته لدى الجمهور، ولو كان هذا عن طريق الاتساق والتماسك في خطاب متشدد. وقد تزامن أو تصادف اضمحلال الأزهر مع ازدهار وبزوغ العولمة. مما سهل على أطراف خارجية وداخلية أن تتمكن من التغلغل في أفكار الكثير من الشباب بل والكبار أيضاً وتلقيحها بما تريد من أفكار. ولم تجد مثل هذه الجماعات مقاومة جادة تذكر من قبل الأزهر، لا لعدم إرادته في كثير من الأوقات، ولكن لعدم قدرته في معظم الأحيان.
أما بقية المؤسسات، من المؤسسة التعليمية إلى جهاز الشرطة والجيش، فهي تمارس قوتها بكل كفائة لإنتاج وتشكيل مواطن مسخ، وهي أيضاً لا ترسخ فقط للوضع القائم وإنما تعيد إنتاج النظام في كل من البنية الاجتماعية والذهنية. فهي تنتج المواطن الملائم للتفاعل مع هذا النظام، وإعداده جسدياً ونفسياً لتقبل الوضع العام، وترسخ عدم رغبته وقدرته على تغييره. والمتأمل لدور الدولة ومؤسساتها في الحوادث الأخيرة يلاحظ غياباً، أو حالة من الغيبوبة وفقدان السيطرة على الموقف. فالكنيسة لم تستطع السيطرة وتهدئة أتباعها، بل إن كثير من الشباب المتحمس، هتفوا ضد الكثير من رموزها وعلى رأسهم قداسة البابا شنودة شخصياً (في حادثة القديسين). وحينما حاولت بعض قيادات النظام الحاكم أن تقوم بما تعودت عليه (الشجب والتنديد والتأكيد علي الوحدة الوطنية) في مثل هذه المواقف تمت محاصرة بعضهم والتهجم عليهم داخل الكنائس. وكان على رأسهم عادل لبيب، محافظ الإسكندرية، في وقت الهجوم على الكنيسة قبل أن تطيح به الثورة. ومؤخراً تم ضرب وطرد مدير أمن الإسكندرية، خالد غرابة، حينما حاول دخول الكنيسة في ليلة رأس السنة. أما الأزهر الشريف - في هذا الوقت - فرأى أن معركته الحقيقة مع الفاتيكان وعليه أن يمنع أي تدخل أجنبي في الشأن المصري. وهو ما يثير بعض الدهشة. حيث يفترض أن يكون هذا من شأن وزارة الخارجية.
عن المعارضةالمصرية والفتنة الطائفية
المعارضة المصرية وبالأخص المشرعنة داخل النظام السياسي –والتي هي جزء لا يتجزأ منه - المتمثلة في الأحزاب السياسية، هي معارضة شكلية. فتلك المعارضة غير قادرة وعاجزة عن إنتاج خطاب سياسي وثقافي قادر على تحويل مشاكل وأسباب ومقومات النزاع المستمر تحت السطح – والذي أحياناً يصل إلى حد تراشق الدماء فوق السطح - بين الأقباط والمسلمين. وهي أيضاً غير قادرة على تحويل هذه المقومات لدوافع منتجة قادرة على تغيير الأوضاع سواء على مستوى البنية السياسية أو العلاقة بين الأفراد أو حتى إحداث تغير على مستوى الممارسة اليومية للأفراد. وهذا لأسباب في بنية تكوينها وأطر تفاعلها. ويعود هذا العجز، في تحليلي، لمجموعة عناصر وأسباب، بعضها داخلي في هذه الأحزاب وأخرى خارجة عن إرادتها، ومتمثلة في كل من بنية النظام القانوني والسياسي.
فهذه المعارضة إهتمت بأن تمد جذورها في وسائل الأعلام لا في وسائل الموصلات. وكان نضالها أمام كاميرات الفضائيات لا في الحواري وبيوت البسطاء. فلقد اهتمت بالإحتجاج على المركز ولم تهتم بالعمل على الهوامش. وتحدثت وإحتجت على الفتنة ولكنها لم تعمل علي تحويل الوضع المزري للإنقسام الطائفي. حتى صار كثير من الناس يرفضون، محاولات الكثير منهم، للانخراط لمقاومة تلك الأحداث، متهمين بعضهم بمحاولة ركوب الكوارث. وقد تجلى هذا في كثير من اجتماعات النشطاء السياسين التي تعقد، لإتخاذ مواقف وردود أفعال في مثل تلك الأحداث. وأرى أن هذه الأحزاب وبعض حركات المعارضة، ينحصر فهمها لممارسات وعلاقات القوة في السلطة والشرعية والمناصب المؤسسية. وهو ما أضعف كثيراً من مقوماتها وقدراتها الداخلية. وفي المقابل كان الإسلاميون بجميع أطيافهم المعتدلة والمتطرفة والسلفية السلمية أو الجهادية، على وعي بأن القوة هي شيء يفهم ويمارس في الفعل لا في المنصب، وغايتها تشكيل وإنتاج الأفراد ووجدانهم، وليس فقط في السيطرة عليهم والقدرة على تنظيمهم بسطوة المناصب والشرعية.
عما يمكنه أن يخلفه الفراغ
وعلى كل حال فقد أدى هذا الفراغ الذي خلفه الأزهر وغياب التربية الدينية الفعلية في المدارس المصرية، وتردي الحال العام، وهشاشة البنى والمؤسسات الرسمية الأخرى - حتى هياكل المعارضة - إلى خلق تربة خصبة لنمو دعاوى الفتنة والتطرف. وفي مثل هذه الأجواء تكون آلية شيطنة الآخر، وإلقاء اللوم عليه والانقسام الاجتماعي من طبائع الأمور وحقائق الأشياء. وهذا يحدث في كثير من بلدان العالم، وليس في مصر فقط. ففي كثير من الدول الأوروبية، يتم تصوير الكثير من المهاجرين، على أنهم خطر دام وتهديد محقق للمجتمع، بل وفي كثير من الأحيان يتهمهم اليمين المتطرف، بأنهم وراء ارتفاع معدلات الجريمة والعنف. وهو أيضا ما حدث تجاه يهود ألمانيا قبل وأثناء الحقبة النازية. فقبل الحقبة، ”كان يجب“ أن يلام أحد ما ويتحمل تدهور الأوضاع العامة وفي الحقبة النازية احتاج الخطاب النازي لشيطان يصعد على أشلائه ويقوم بحرقه مع ما يحرق. ولقد لجأت معظم النظم الشمولية والاستبدادية إلى مثل هذه الآليات والأفعال. ويرى الكثير من المحللين، أن النظام المصري، يعبث بكلا الطرفين ليحكم قبضته على البلاد عن طريق تخويف بعضهم ببعض. ولعل الشاهد على ذلك هو أن كثير من المسلمين يشعرون بالاضطهاد –وخصوصا الاقتصادي- وأن المسيحيين " يستأسدون" عليهم، على الرغم من أن المسلمين هم الأكثرية. وقد تفوه بمثل هذا القول نصاً شيخ مثل وجدي غنيم، وهو رجل له مكانته وتأثيره في أوساط كبيرة. وهنالك المثل أو المقولة الشهيرة بأنه ”لا يوجد متسول مسيحي“. في المقابل يرى كثير من المسيحيين، أن هذه الأرض هي أصلاً بلادهم، وأن هؤلاء الأغراب دخلاء عليها، وقد تقول بهذا أحد القساوسة نصاً أيضاً. ويرى الكثير من المسيحيين، أنهم في استهداف دائم من قبل أي مسلم، لأن عقيدته –الإسلام- تنص علي قتله لكونه كافراً. والحقيقة أن الكثير من الجانبين يرددون نفس الخطاب ولكن بالمقلوب.
الإشكالية الكبرى، أن مثل هذا الخطاب المتطرف، في ظل الفراغ والضعف والغيبوبة أو سوء مؤسسات الدولة، يصوغ معرفتنا وتصورنا عن الذات والواقع والآخر. ويعيد هذا الخطاب إنتاج البنية الذهنية والاجتماعية، ثم تعيد هذه البنى إنتاجه مرة أخرى. والخريطة المعرفية هنا توضح لنا كيف يتم إدراك المسلم/ للمسيحي، والمسيحي/ للمسلم على أنه عدو وليس أخ في الوطن. فالإنسان لا يرى الواقع أو الأمور على حقيقاتها الخالصة، ولكنه يرى صورة ما أو تخيل ما، عن الأمور وحقائقها. تكون هذه الصور والنماذج والتخيلات الخريطة المعرفية للفرد والتي يرى ويحلل ويفسر من خلالها الواقع والأشياء ومنطقها. والخريطة المعرفية للأفراد لا تتواجد في فراغ، وأنما تتواجد في مجموعة من العلاقات الاجتماعية تربطها مجموعة من التفاعلات والبنى المختلفة. وهو ما يولد شيئاً من الإدراك والوعي الجمعي، الذي تعكسه الثقافة والهوية بشكل متجدد ومتغير. والواقع المصري الذي تعكس أبعاده وعمقه حوادث الفتنة، ينم عن مشاكل كبيرة، تحول دون القدرة على إعادة تخيل الواقع والذات والآخر. وتكمن الإشكالية، التي تكون هذه العوائق، في أن شبكة علاقات القوى (من الخطاب إلى دور المؤسسات والقوى الاجتماعية المختلفة) المنتجة للفرد، تحول دون قدرته على إعادة إنتاج الذات بشكل مغاير. ولا شك أن الثورة فضحت هشاشة التخيل السياسي للمؤسسات والأحزاب وحتى الحركات الإسلامية. بل لقد كان هناك فرصة كبيرة لتحويل الأزمة، أثناء وعد الحدث الثوري. حيث أثبت الواقع ومجموعات التفاعلات الثورية، أنها قادرة على خلق واقع جديد يعاد فيه تخيل الآخر. أي أنه أثناء ثمانية عشر يوماً للثورة وبعدها بفترة قصيرة، أثبت أن تخيل المسيحي عن المسلم وتخيل الأخير عن الأول، ملئ بالمغالطات والأوهام المصطنعة. وأن كلاهما قام بحماية الآخر ودور عبادته. إلا أن هذه الحالة لم تسثمر وتفوقت عليها البنية القديمة ونجحت حتى الآن في إعادة إنتاج نفسها بنفس التفاعلات القبيحة، التي ظننا أننا تخلصنا منها في الثورة.
الممارسة اليومية والإنسحاب العام
علينا الاعتراف، بأن السلوك اليومي لكثير منا، يحمل في طياته الكثير من العنف والإقصاء. بل إن سلوكنا اليومي هو انعكاس خطير لوطأة الاستقطاب والتشرذم الداخلي في المجتمع المصري. ولعل الشاهد على ذلك انحسار كثير من نشاط الشباب المسيحي داخل التنظيمات الكنسية وكذلك انحسار الشباب المسلم وتقوقع الكثيرين في تنظيمات أو تحركات داخل المساجد. والمتأمل لوضع الجامعات المصرية يلاحظ وجود تكتلات على أساس ديني –وإن كانت غير معنية بشؤون الدين سواء المسيحي أو الإسلامي.
والناظر إلى منظمات المجتمع المدني، يلاحظ أن انخراط الشباب المسيحي داخل تلك الكيانات والكائنات محدود جداً. فمعظمهم يفضل العمل التابع لمؤسسات الكنيسة. وآخرون يشعرون بالاضهاد والتفرقة ولذلك أثروا الانسحاب إلى كيانتهم الآمنة. وقد عبر لي الأستاذ سليمان شفيق، من مركز الجزويت (اليسوعيين) بالإسكندرية، عن قلقه الشديد من هذا الانسحاب والاستقطاب. فحتى داخل مركز مثل مركز اليسوعيين، هنالك غياب ملحوظ للشباب المسيحي، من الفعاليات التي لا يديرها المركز مباشرة أو غير المنظمة عن طريق بعضهم البعض. ولنخرج من الممارسات الجمعية لأحاديث المقاهي والمواصلات العامة، حيث نسمع الكثير من الأقوال التي من شأنها ترسيخ الإنقسام والإستقطاب، بل وفي كثير من الأحيان تأتي بالعداء والنفور، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مقولة، "ماعدوك، الا عدو دينك"، "هما عاوزين إيه مش كفاية ماسكين اقتصاد البلد"، "إنت تعرف إيه اللي في الكنايس ده قلاع حربية ومليانة ذخيرة وأسلحة"، "دول لو طالوا يدبحونا حيعملوها"، "دول أقلية، وكمان لو مش عجبهم يسيبوا البلد ويمشوا".
وهنا نتساءل، عما يمكن أن تكون عليه مستوى وحال العلاقة أو العلائقية بين الأفراد وبعضهم البعض. ما هو نمط العلاقة التي تصوغها مثل هذه الممارسات اليومية للأفراد، إضافة إلى الممارسة المؤسسية؟ كيف يمكن أن تنهار بسهولة كل شعارات الوحدة الوطنية وأغاني القناة الأولى وقنوات النيل الفضائية، مع أي حدث سواء في ضخامة وترويع الحدث الأخير أو كان أقل منه وطأ وبؤس؟ وهل يمكن أن تكون العلاقة قد تحولت إلى حالة من الخوف والفزع والترقب؟ هل يمكن أن تكون حالات الانحسار والاستقطاب قد أدت إلى حالة انقطاع وغياب للتواصل والإتصال؟ وأخيراً، ماذا حدث لعلاقتنا خارج الأطر والهياكل؟ ماذا هنالك فيما وراء الكنيسة والمسجد؟
المراجع
Dillon, Michael (1996): Politics of Security: Towards a Political Philosophy of Continental Thought, Routledge London.
(2005): Global Security in the 21st Century: Circulation, Complexity and Contingency, ISP/NSC Briefing Paper, October, CHATHAM HOUSE.
- جلال أمين (2009): مصر والمصريون في عهد مبارك (1981-2008)، دار ميريت، القاهرة.